كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فالأم اللؤم تخلف القلوب عن محبة من هذا شأنه وتعلقها بمحبة سواه.
وأيضا فكل من تحبه من الخلق أو يحبك إنما يريدك لنفسه وغرضه منك والرب سبحانه وتعالي يريد لك كما في الأثر الإلهي «عبدي كل يريدك لنفسه وأنا أريدك لك» فكيف لا يستحيي العبد إن يكون ربه له بهذه المنزلة وهو معرض عنه مشغول بحب غيره وقد استغرق قلبه محبة ما سواه؟
وأيضا فكل من تعامله من الخلق إن لم يربح عليك لم يعاملك ولا بدله من نوع من أنواع الربح والرب تعالى إنما يعاملك لتربح أنت عليه أعظم الربح وأعلاه فالدرهم بعشرة أمثاله إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة والسيئة بواحدة وهي أسرع شيء محوا.
وأيضا فهو سبحانه خلقك لنفسه وخلق كل شيء خلق لك في الدنيا والآخرة فمن أولي منه باستفراغ الوسع في محبته وبذل الجهد في مرضاته؟
وأيضا فمطالبك- بل مطالب الخلق كلهم جميعا- لديه وهو أجود الأجودين وأكرم الأكرمين ويعطي عبده قبل إن يسأله فوق ما يؤمله يشكر على القليل من العمل وينميه ويغفر الكثير من الزلل ويمحوه ويسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن لا يشغله سمع عن سمع ولا يغلطه كثرة المسائل ولا يتبرم بإلحاح الملحين بل يجب الملحين في الدعاء ويجب إن يسأل ويغضب إذا لم يسأل فيستحي من عبده حيث لا يستحي العبد منه ويستره حيث لا يستر نفسه وبرحمة حيث لا يرحم نفسه دعاه بنعمته وإحسانه وناداه إلى كرامته ورضوانه فأبي فأرسل صلى الله عليه وسلم في طلبه وبعث معهم إليه عهده ثم نزل سبحانه بنفسه وقال: «من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟» كما قيل: «أدعوك للوصل فتأبي أبعث رسلي في الطلب أنزل إليك بنفسي ألقاك في النوم» وكيف لا تحب القلوب من لا يأتي بالحسنات إلاّ هو ولا يذهب بالسيئات إلاّ هو ولا يجيب الدعوات ويقيل العثرات ويغفر الخطيئات ويستر العورات ويكشف الكربات ويغيث اللهفات وينيل الطلبات سواه؟ فهو أحق من ذكر وأحق من شكر وأحق من حمد وأحق من عبد وأنصر من ابتغى وأرأف من ملك وأجود من سئل وأوسع من أعطي وأرحم من استرحم وأكرم من قصد وأعز من التجأ إليه وأكفي من توكل عليه أرحم بعبده من الوالدة بولدها وأشد فرحا بتوبة عباده التائبين من الفاقد لراحلته التي عليها طعامها وشرابه في الأرض المهلكة إذا يأس من الحياة فوجدها وهو الملك فلا شريك له والفرد فلا ندله كل شيء هالك إلاّ وجهه لن يطاع إلاّ بإذنه ولن يعصي إلاّ بعلمه يطاع فيشكر وبتوفيقه ونعمته أطيع ويعصي فيغفر ويعف وحقه أضيع فهو أقرب شهيد وأدنى حفيظ وأوفى وفي بالعهد وأعدل قائم بالقسط حال دون النفوس وأخذ بالنواصي وكتب الآثار ونسخ الآجال فالقلوب له مفضية والسر عنده علانية والعلانية والغيوب لديه مكشوف وكل أحد إليه ملهوف وعنت الوجوه لنور وجهه وعجزة القلوب عن إدراك كنهه ودلت الفطرة والأدلة كلها على امتناع مثله وشبهه أشرقت لنور وجهه الظلمات استنارت له الأرض والسموات وصلحت عليه جميع المخلوقات لا ينام ولا ينبغي له إن ينام يحفظ القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه بالنور لو كشفه لا حرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.
ما اعتاض باذل حبه لسواه من عوض ولو ملك الوجود بأسره وهاهنا أمر عظيم يجب على اللبيب الاعتناء به وهو أن كمال اللذة والسرور والفرح ونعيم القلب وابتهاج الروح تابع لأمرين:
أحدهما: كمال المحبوب في نفسه وجماله وإنه أولي بإيثار المحبة من كل ما سواه.
والأمر الثاني: كمال محبته واستفراغ الوسع في حبه وإيثار قربه والوصول إليه على كل شيء.
وكل عاقل يعلم أن اللذة بحصول المحبوب بحسب قوته ومحبته فكل ما كانت المحبة أقوى كانت لذة المحب أكمل فلذة من اشتد ظمؤه بادراك الماء الزلال ومن اشتد جوعه بأكل الطعام الشهي ونظائر ذلك على حسب شوقه وشدة إرادته ومحبته.
وإذا عرفت هذا فاللذة والسرور والفرح أمر مطلوب في نفسه بل هو مقصود كل حي وعاقل وإذا كانت لذة مطلوب في نفسها فهي تذم إذا أعقبت ألم أعظم منها. أو منعت لذة خيرا منها وأجل فكيف إذا أعقبت أعظم الحسرات وفوتت أعظم اللذات والمسرات؟ وتحمد إذا أعانت على لذة عظيمة دائمة مستقرة لا تنغيص فيها ولا نكد بوجه ما وهي لذة الآخرة ونعيمها وطيب العيش فيها قال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} الآية وقال السحرة لفرعون لما آمنوا {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إنما تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عليهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}.
والله سبحانه وتعالى خلق الخلق ليبتليهم هذه اللذة الدائمة في دار الخلد وأما الدنيا فمنقطعة ولذاتها لا تصفو أبدا ولا تدوم بخلاف الآخرة فإن لذاتها دائمة ونعيمها خالص من كل كدر وألم وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين مع الخلود أبدا فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين بل فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وهذا المعني الذي قصده الناصح لقومه بقوله: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ يَا قَوْمِ إنما هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} فاخبرهم إن الدنيا متاع ليستمتع بها إلى غيرها وأن الآخرة هي المستقر.
وإذا عرفت أن لذات الدنيا متاع وسبيل إلى لذات الآخرة ولذلك خلقت الدنيا لذاتها فكل لذة أعانت على لذة الآخرة وأوصلت إليها لم يذم تناولها بل يحمد لحسب إيصالها إلى لذة الآخرة.
إذا عرف هذا فأعظم نعيم الآخرة ولذاتها: النظر إلى وجه الله جل جلاله وسماع كلامه والقرب منه كما ثبت في الصحيح في حديث الرؤية «فوالله ما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه» وفي حديث آخر: «إنه إذا تجلي لهم ورأوه نسوا ما هم فيه من النعيم».
وفي النسائي ومسند الإمام أحمد من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه: «وأسألك اللهم لذة النظر إلى وجهك الكريم والشوق إلى لقائك».
وفي كتاب السنة العبد الله بن الإمام أحمد مرفوعا: «كأن الناس يوم القيمة لم يسمعوا القرآن من الرحمن فإذا سمعوه من الرحمن فكأنهم لم يسمعوا قبل ذلك».
وإذا عرف هذا فأعظم الأسباب التي تحصل هذه اللذة هو أعظم لذات الدنيا على الإطلاق وهي لذة معرفته سبحانه ولذة محبته فإن ذلك هو لذة الدنيا ونعيمها العالي ونسبة لذاتها الفانية إليه كتفلة في بحر فإن الروح والقلب والبدن إنما خلق لذلك فأطيب ما في الدنيا معرفته سبحانه ومحبته وألذ ما في الجنة رؤيته ومشاهدته فمحبته ومعرفته قرة العيون ولذة الأرواح وبهجة القلوب ونعيم الدنيا وسرورها من اللذة القاطعة عن ذلك تتقلب آلاما وعذابا ويبقى صاحبها في المعيشة الضنك فليس الحياة الطيبة إلاّ بالله وكان بعض المحبين تمر به أوقات فيقول: إن كان أهل الجنة في نعيم مثل هذا إنهم لفي عيش طيب وكان غيره يقول: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجلدونا عليه بالسيوف.
وإذا كان صاحب المحبة الباطلة التي هي عذاب على قلب المحب يقول في حاله:
وما الناس إلاّ العاشقون ذوو الهوى ** فلا خير فمن لا يحب ويعشق

ويقول آخر:
أف للدنيا متى ما لم يكن ** صاحب الدنيا محب أو حبيبا

ويقول الآخر:
ولا خير في الدنيا ولا في نعيمها ** وأنت وحيد مفرد غير عاشق

ويقول الآخر:
أسكن إلى سكن تلذ بحبه ** ذهب الزمان وأنت منفرد

ويقول الآخر:
تشكي المحبون الصبابة ليتني ** تحملت ما يلقون من بينهم وحدي

فكانت لقلبي لذة الحب كلها ** فلم يلقها قبلي محب ولا بعدي

فيكف بالمحبة التي هي حياة القلوب وغذاء الأرواح وليس للقلب لذة ولا نعيم ولا فلاح ولا حياة إلاّ بها؟ وإذا فقدها القلب كان ألمه أعظم من ألم العين إذا فقدت نورها والأذن إذا فقدت سمعها والأنف إذا فقد شمها واللسان إذا فقد نطقه بل فساد القلب إذا خلي من محبة فاطره وبارئه وإلهه الحق أعظم من فساد البدن إذا خلي منه الروح وهذا الأمر لا يصدق به الأمن فيه حياة وما لجرح ميت إيلام.
والمقصود: أن أعظم لذات الدنيا هي السبب الموصل إلى أعظم لذة في الآخرة ولذات الدنيا ثلاثة أنواع:
فأعظمها وأكملها: ما أوصل إلى لذة الآخرة ويثاب الإنسان على هذه اللذة أتم ثواب ولهذا كان المؤمن يثاب على ما يقصد به وجه الله من أكله وشربه ولبسه ونكاحه وشفاء غيظ لقهر عدو الله وعدوه فكيف بلذة إيمانه ومعرفته بالله ومحبته له وشوقه إلى لقائه وطمعه في رؤية وجهه الكريم في جنات النعيم؟
النوع الثاني: لذة تمنع لذة الآخرة وتعقب آلاما أعظم منها كلذة الذين اتخذوا من دون الله أوثانا مودة بينهم في الحياة الدنيا يحبونهم كحب الله ويستمع بعضهم ببعض كما يقولون في الآخرة إذا لقوا ربهم {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إن رَبَّكَ حَكِيمٌ عليمٌ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ولذة أصحاب الفواحش والظلم والبغي في الأرض والعلو بغير الحق وهذه اللذات في الحقيقة إنما هي استدراج من الله لهم ليذيقهم بها أعظم الآلام ويحرمهم بها أكمل اللذات بمنزلة من قدم لغيره طعام لذيذا مسموم يستدرجه به إلى هلاكه قال تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إن كَيْدِي مَتِينٌ}.
قال بعض السلف في تفسيرها: كل ما أحدثوا ذنبا أحدثنا لهم نعمة {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فإذا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وقال تعالى لأصحاب هذه اللذة: {أَيَحْسَبُونَ أنما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ}.
وقال في حقهم {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إنما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} الآية.
وهذه اللذة تنقلب آلاما من أعظم الآلام كما قيل:
مآرب كانت في الحياة لأهلها ** عذابا فصارت في المعاد عذابا

النوع الثالث: لذة لا تعقب لذة في دار القرار ولا ألما يمنع وصول لذة دار القرار وإن منعت كمالها وهذه اللذة المباحة التي لا يستعان بها على لذة الآخرة فهذه زمانها يسير وليس لتمتع النفس بها قدر ولابد إن يشتغل عما هو خير وأنفع منها.
وهذا القسم هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل إلاّ رمية بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته فإنهن من الحق» فما أعان على اللذة المطلوبة لذاتها فهو حق وما لم يعن عليها فهو باطل.
فصل:
فهذا الحب لا ينكر ولا يذم بل هو أحد أنواع الحب وكذلك حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما نعني بالمحبة الخاصة وهي التي تشغل قلب المحب وفكره وذكره لمحبوبه وإلاّ فكل مسلم في قلبه محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولا يدخل الإسلام إلاّ بها الكراهة متفاوتون في درجات هذه المحبة تفاوت لا يحصيه إلاّ الله فبين محبة الخليلين صلى الله عليه وسلم ومحبة غيرهما ما بينهما فهذه المحبة هي التي تلطف وتخفف أثقال التكاليف وتسخي البخيل وتشجع الجبان وتصفي الذهن وتروض النفس وتطيب الحياة على الحقيقة لا محبة الصور المحرمة وإذا بليت السرائر يوم اللقاء كانت سريرة صاحبها من خير سرائر العباد كما قيل:
سيبقى لكم في مضمر القلب والحشا ** سريرة حب يوم تبلي السرائر

وهذه المحبة هي التي تنور الوجه وتشرح الصدر وتحيي القلب وكذلك محبة كلام الله فإنه من علامة حب الله وإذا أردت إن تعلم ما عندك وعند غيرك من محبة الله فإنظر محبة القرآن من قلبك والتذاذك بسماعه أعظم من التذاذ أصحاب الملاهي والغناء المطرب بسماعهم فإنه من المعلوم إن من أحب حبيبا كان كلامه وحديثه أحب شيئا إليه كما قيل: إن كنت تزعم حبي فلم هجرت كتابي، أما تأملت ما فيه من لذيذ خطابي.